⸻
”مقدمة الحلقة:
مرحباً بكم في حلقة جديدة من بودكاست حديث وكتاب.
هل تساءلت يومًا: لماذا يُعامل الناس بشكل مختلف حسب لونهم، أو دينهم، أو طبقتهم الاجتماعية؟
لماذا يولد بعض الناس وفي أيديهم كل الفرص، بينما يولد آخرون وكأن عليهم أن يثبتوا أنهم يستحقون الحياة؟
في هذه الحلقة، سنغوص في سؤال عميق:
لماذا صنّف المجتمع الهندي الناس حسب الطبقات؟ ولماذا صنّف العثمانيون الناس حسب الدين؟ ولماذا بَنَت أمريكا نظامًا عنصريًا على أساس اللون و العرق؟
ابقوا معنا فاليوم سنتحدث عن بداية هذه التراتبيات و كيف تحولت إلى حقائق راسخة، دعمتها الأساطير والدين والعلم… وأصبحت جزءًا من ثقافة المجتمعات و من معتقداتهم الراسخة
++++الملخص المبسّط:
المجتمعات البشرية دائمًا بنت تنظيمها على شكل هرمي يسمّى “التراتبية”، لكن كل مجتمع اختار معيار مختلف:
الهند اعتمدت على الطبقة، الدولة العثمانية على الدين، وأمريكا على العرق.
هذه التصنيفات لم تكن نتيجة منطق أو بيولوجيا، بل بسبب ظروف تاريخية عشوائية حدثت ، ثم كرّستها الأديان، والعادات، والأساطير. ومع مرور الزمن أصبحت تبدو طبيعية أو مقدّسة.
مثال
قبل 3000 سنة، غزت شعوب الهندوارية شبه القارة الهندية ، وفرضت نظامًا طبقيًا جعلوا فيه أنفسهم في القمة والسكان الأصليين في القاع. استخدموا الدين والطقوس والأساطير لتبرير هذه التفرقة، وربطوا الطهارة والنجاسة بالطبقة، حتى صار أي تواصل بين الطبقات محرّم، بل يُعتبر “مُنجِّسًا” للمجتمع كله. ثم اصبح الانتماء الطبقي يُورَّث ولا يمكن تغييره، وتحوّل إلى جزء من الدين والهُوية.
فإذا رغبتَ بعزل أي مجموعة بشرية، سواء كانوا نساء أو يهودًا أو غجرًا أو مثليين جنسيًا أو سودًا، فأفضل طريقة للقيام بذلك هي إقناع الجميع بأن هؤلاء الناس يشكلون مصدرًا للنجاسة.
و ربما لم يكن الخوف من النجاسة اختراعًا كاملًا من قبل الكهنة والأمراء؛ فقد يكون له جذور في آليات البقاء البيولوجية التي أشعرت البشر بمَقت غريزي تجاه ناقلي الأمراض المحتملين مثل الأشخاص المرضى والجثث
مثال اخر في أمريكا المعاصرة استورد الأوروبيون الفاتحون منذ القرن السادس عشر وحتى القرن الثامن عشر ملايين العبيد الأفارقة للعمل في المناجم والمزارع في أمريكا و اختاروا استيراد العبيد من أفريقيا بدلا من أوروبا أو شرق أسيا لثلاثة عوامل
• اولها كانت أفريقيا أقرب و لذلك كان استيراد العبيد من السنغال أرخص من استيرادها من فيتنام
• ثانيا كانت توجد في أفريقيا مسبقا تجارة رقيق متطورة تقوم على تصدير العبيد إلى الشرق الأوسط بشكل أساسي في حين انه كانت العبودية في أوروبا نادرة جدا كان من الواضح أن شراء العبيد من سوق موجودة أسهل بكثير من إنشاء سوق جديد من الصفر
• ثالثا كانت المزارع الأمريكية في أماكن كفرجينيا وهايتي والبرازيل تعاني من الملاريا والحمى الصفراء التي يعود أصلها إلى أفريقيا و التي منحت الأفريقى عبر الأجيال مناعة جينية جزئية ضد هذه الأمراض في حين كان الأوروبيون معدومي الحيلة تماما وماتوا بأعداد كبيرة لذا كان من الحكمة أن يستثمر صاحب مزرعة أمواله في عبد أفريقي بدلا من أوروبي
ومن المفارقات العجيبة أن التفوق الجيني من حيث المناعة الجسمية تترجم إلى دونية اجتماعية بالتحديد لأن الأفارقة كانوا أكثر ملائمة لمناخ المناطق المدارية من الأوروبيين و نتيجة لتلك العوامل انتهى بهم الأمر كعبيد عند سادة أوروبيين
و بالرغم من ذلك بدلاً من الاعتراف بأنهم عبيد فقط لأنهم مفيدون اقتصاديًا، بدأوا يخترعون أساطير دينية وعلمية لتبرير هذه العنصرية:
حيث جادل اللاهوتيون بان الافارقة من سلالة حام ابن نوح الذي لعنه أبوه بأن تكون ذريته من العبيد
وجادل علماء البيولوجيا بأن السود أقل ذكاءا من البيض وأن حسهم الأخلاقي أقل تطورا
وزعم الأطباء أن السود يعيشون في القذار وينشرون أمراضه و بكلمات أخرى مصدرللنجاسة
فضربت هذه الأساطير وترا حساسا في الثقافة الأمريكية والغربية عموما واستمرت في ممارسة نفوذها لفترة طويلة حتى بعد اختفاء الظروف التي خلقت العبودية
و كانت النتيجة دورة ذاتية التعزيز من السبب والنتيجة وهكذا صنعت هذه الاساطيرحلقة مفرغة:
حرم السود من التعليم والعمل و بالتالي اصبح السود فعلاً أضعف في التعليم وفي الحصول على الفرص الوظيفية و اكثر فقرا ، ثم استُخدمت هذه الفجوة لتأكيد أنهم “طبيعيًا” أقل كفاءة. وهكذا أصبحت العنصرية “مبررة” ومكررة.
ومع الوقت، ظهرت قوانين “جيم كرو” التي منعت السود من التعلّم، التصويت، و التسوق في اسواق البيض و السكن في فنادقهم أو الأكل في نفس مطاعمهم و أي محاولة من السود لكسر هذه الحواجز كانت تُقابل بالعنف، وحتى القتل.
و مع مرور الوقت ايضا انتشرت العنصرية الى ساحات ثقافية اكثر فاكثر و بنيت ثقافة الجمال الامريكية حول الصفات الجسمية للعرق الابيض على سبيل المثال الجلد الفاتح والشعر الفاتح المنساب والانف الصغير المتجه للاعلى و تم اخذها على انها مقاييس للجمال واعتبرت ملامح السود النموذجية والتي هي البشرة الداكنة والشعر الداكن المجعد والانف المسطح قبيحة وجذرت هذه التصورات المسبقة في مستوى اعمق من وعي الانسان و المشكلة ان مثل هذه الحلقات المفرغة يستمر لعدة قرون وحتى لالاف السنين معززة لتراتبية متخيلة انبثقت من حادثة تاريخية عارضة وغالبا ما يصبح التمييز الظالم اسوأ وليس افضل و مع مرور الوقت فالمال يجلب المال والفقر يجلب الفقر والتعليم يأتي بالتعليم والجهل يأتي بالجهل وأولئك الذين وقعوا ضحية التاريخ مرة من المحتمل ان يقعوا ضحية له مرة اخرى وأولئك الذين احظاهم التاريخ بامتيازات لديهم احتمالية اكبر ليكونوا محظوظين مرة اخرى
معظم التراتبيات الاجتماعية السياسية لا تقوم على اساس منطقي او بيولوجي انما هي ادامة لأحداث مؤقتة دعمتها الاساطير وهذا سبب وجيه يجعلنا ندرك انه لا يكفي لفهم المجتمعات أن ندرس الأحياء أو الجينات. بل يجب أن ندرس التاريخ، لأنه وحده يكشف لنا كيف تحولت الخيالات البشرية إلى واقع اجتماعي قاسٍ وطويل الأمد.
في النهاية، يمكننا أن نقول إن التفرقة بين الناس ليست ناتجة عن طبيعتهم، ولا عن تفوق فئة بيولوجيا او جينيا على فئةأخرى، بل هي في الغالب نتيجة لحوادث تاريخية… استُغلّت، ثم نُسجت حولها أساطير ورسّختها المجتمعات على مدى قرون.
الطبقات في الهند، والتمييز الديني في الدولة العثمانية، والعنصرية في أمريكا… كلها أمثلة على حلقة مفرغة تبدأ بحدث، ثم تُبرّر، ثم تتحول إلى نظام، وأخيرًا تصبح جزءًا من “المنطق” الاجتماعي.
لكنّ هذا الإدراك ليس دعوة لليأس… بل هو دعوة للفهم.
فحين نفهم كيف بُنيت هذه التراتبيات، يمكننا أن نعيد التفكير فيها، و أن نتحداها، وربما تحدث معجز لتكسر الحلقة المفرغة
و انتظرونا في الحلقة القادمة التي سنتحدث فيها عن اقوى تراتبية ظلت ((((
تعليقات
إرسال تعليق