التخطي إلى المحتوى الرئيسي

العاقل /سبب اختفاء البشر الاخرين


في هذه الحلقة من سلسلة كتاب العاقل، سنطرح التساؤلات حول سبب اختفاء البشر الآخرين، وكيف أصبحنا النوع الوحيد المتبقي على هذا الكوكب!

يقول الكاتب: قبل 150,000 سنة، كان نوع الإنسان العاقل، الذي كان يبدو مثلنا تمامًا، والذي لو ظهر في مشرحة حديثة فإن متخصصًا في علم الأمراض لن يلحظ شيئًا غريبًا يميزه، موجودًا بالفعل على مسرح العالم، لكنه كان منشغلًا حتى ذلك الوقت بتدبير أموره في زاوية بأفريقيا. رغم ميزات النار، إلا أن البشر في ذلك الحين كانوا ما يزالون كائنات هامشية. وإن أحصينا جميع أنواع البشر مجتمعة، فإن تعدادهم لم يكن يتجاوز مليون نسمة يعيشون بين أرخبيل إندونيسيا وشبه جزيرة إيبيريا، مجرد نقطة ضوء على شاشة الرادار البيئي. وقبل 70,000 سنة تقريبًا، انتشر العقلاء من شرق أفريقيا إلى شبه الجزيرة العربية، ومن هناك اجتاحوا سريعًا الكتلة القارية الأوراسية.

ويبقى السؤال الآن: ما سبب اختفاء البشر الآخرين؟ وما الذي حدث لهم؟

  • هل كان الإنسان العاقل أكثر ذكاءً وقدرة على التكيف، مما جعله يتفوق عليهم في سباق البقاء؟
  • أم أن الأمر لم يكن مجرد تفوق، بل حدث تزاوج بيننا وبينهم، مما جعلهم يندمجون معنا تدريجيًا؟
  • هل كان هناك صراع مباشر أدى إلى انقراضهم؟ أم أن تغيرات المناخ والبيئة لعبت دورًا في اختفائهم؟

يجيب كتاب العاقل عن هذا السؤال بطرح نظريتين متضاربتين، وهما: نظرية التهجين ونظرية الإحلال.

نظرية التهجين

تقول هذه النظرية إنه حدث انجذاب وعلاقات جنسية وامتزاج، حيث تزاوج المهاجرون الأفارقة الذين انتشروا حول العالم مع مجموعات بشرية أخرى. على سبيل المثال، عندما وصل العقلاء إلى الشرق الأوسط وأوروبا، التقوا بالنياندرتال، الذين عادة ما يتم تصويرهم على أنهم سكان كهوف نمطيون وأغبياء وهمج، لكن أدلة حديثة غيرت هذه الصورة؛ إذ تبين أنهم كانوا أقوياء وصيادين جيدين، استخدموا النار والأدوات، واعتنوا بمرضاهم وعجائزهم. فقد اكتشف علماء الآثار عظامًا لأفراد من النياندرتال عاشوا عدة سنوات رغم إعاقات جسدية حادة، مما يدل على أن أقاربهم كانوا يعتنون بهم.

ووفقًا لنظرية التهجين، فإن مجموعة من العقلاء تزاوجت مع مجموعة من النياندرتال حتى اندمجت المجموعتان، وبالتالي، فإن الأوراسيين اليوم ليسوا عقلاء أنقياء تمامًا.

وعندما وصل العقلاء إلى شرق آسيا، تزاوجوا مع مجموعة الإنسان المنتصب المحلي، وهكذا فإن الصينيين والكوريين هم خليط من العقلاء والمنتَصِبين.

نظرية الإحلال

تقول هذه النظرية إن العقلاء - أي نحن - حلوا محل جميع المجموعات البشرية السابقة دون أن يندمجوا معها، وإن الاختلاف والنفور، وربما الإبادة الجماعية، كانت السبب في اختفاء البشر الآخرين. وذلك لأن العقلاء والأنواع البشرية الأخرى كانت لديهم اختلافات تشريحية وعادات تزاوج مختلفة، وكان الاهتمام الجنسي بينهم ضعيفًا. ولو وقع روميو النياندرتالي في هوى جولييت العاقلة، لم يكن بإمكانهما إنجاب أبناء يتمتعون بالخصوبة، لأن هناك فجوة جينية فاصلة بين المجموعتين لا يمكن تجاوزها. ووفقًا لهذا الرأي، فإن كل واحد من البشر المعاصرين هو عاقل نقي لا يحمل أي جينات من البشر الآخرين.

الجدل حول النظريتين

هناك الكثير من الجدل حول هاتين النظريتين، فمن منظور تطوري، تُعد سبعون ألف سنة فترة قصيرة نسبيًا. وإذا كانت نظرية الإحلال صحيحة، فإن الفروق العرقية بين البشر الأحياء تافهة وبسيطة، لكن إن كانت نظرية التهجين صحيحة، فإن ذلك قد يُغذي نظريات عرقية متفجرة.

يذكر الكاتب أنه في العقود الأخيرة، كانت نظرية الإحلال هي الرائجة في الأوساط العلمية، مستندةً إلى أدلة صلبة، كما أنها كانت "أصح" من الناحية السياسية، حيث لم يكن للعلماء رغبة في فتح صندوق باندورا العرقي بادعاء أن هناك تنوعًا جينيًا كبيرًا بين المجموعات البشرية الحديثة.

ما المقصود بصندوق باندورا؟

"صندوق باندورا" هو تعبير مستمد من الأساطير اليونانية القديمة، حيث يُروى أن "باندورا" كانت أول امرأة خُلقت بأمر من زيوس، ملك الآلهة. وقد قُدِّم لها صندوق (أو جرة) مع تحذير بعدم فتحه. وبدافع الفضول، فتحته، فانطلقت منه كل الشرور والمصائب إلى العالم، ولم يتبقَ داخله سوى الأمل. يُستخدم هذا التعبير مجازيًا للإشارة إلى فعل أو قرار يؤدي إلى عواقب غير متوقعة وسلبية.

عودة إلى نظرية التهجين

في عام 2010، انتهت الصحة المطلقة لنظرية الإحلال، بعد أن نُشرت نتائج جهود دامت أربع سنوات لتحديد جينوم النياندرتال، وإجراء مقارنة شاملة بينه وبين جينوم الإنسان الحديث، وقد أذهلت هذه النتائج الوسط العلمي.

إذ اتضح أن ما بين 1 - 4% من الجينوم البشري المميز للمجموعات المعاصرة في الشرق الأوسط وأوروبا هو جينوم نياندرتالي. وصحيح أنها ليست نسبة كبيرة، لكنها مهمة. وبعدها بأشهر، ظهرت نتيجة أخرى أظهرت أن نسبة تصل إلى 6% من جينوم إنسان دينيسوفا توجد لدى الميلانيزيين في جنوب غرب المحيط الهادئ وسكان أستراليا الأصليين المعاصرين.

إذا كانت هذه النتائج صحيحة، فإن مؤيدي نظرية التهجين بات لديهم على الأقل شيء من الحقيقة. ومع ذلك، من المهم أن نأخذ في الاعتبار أن الأبحاث الإضافية قد تعدل أو تعزز هذه الاستنتاجات.

لكن هذا لا يعني أن نظرية الإحلال خاطئة تمامًا، إذ كان العقلاء بالفعل مختلفين جدًا عن النياندرتال والدينيسوفا، ليس فقط في الشفرة الجينية والصفات الجسمية، بل أيضًا في القدرات الذهنية والاجتماعية. ومع ذلك، يبدو أنه كانت هناك فرص نادرة جدًا أنتج فيها العقلاء والنياندرتال ذرية خصبة.

احتمالات أخرى لاختفاء البشر الآخرين

  • أحد الاحتمالات هو أن الإنسان العاقل دفعهم إلى الانقراض، حيث تمتع العقلاء بمهارات اجتماعية متفوقة، مما جعل النياندرتال يواجهون صعوبة في تأمين طعامهم، فتضاءل عددهم حتى انقرضوا، وربما التحق فرد أو فردان منهم بجيرانهم العقلاء.
  • هناك احتمال آخر، وهو أن المنافسة على الموارد أدت إلى العنف والمذابح الجماعية. وكما يقول يوفال نوح هراري، فإن التسامح لم يكن سمة من سمات العقلاء؛ فمن الملاحظ كيف أن اختلافًا بسيطًا في لون الجلد أو اللهجة أو الدين كافٍ في العصور الحديثة لدفع مجموعة إلى إبادة أخرى، فهل كان من المتوقع أن يكون العقلاء الغابرون أكثر تسامحًا تجاه نوع مختلف كليًا من البشر؟ ربما كان لقاء العقلاء بالنياندرتال هو أول وأهم حملة تطهير عرقي في التاريخ!

الخلاصة

لم تندمج المجموعتان بشكل كامل، ولكن القليل من جينات النياندرتال المحظوظة وجدت "توصيلة مجانية" في الطريق السريع للعقلاء!

أخيرًا، يرى الكاتب أن لغة الإنسان العاقل المميزة هي التي مكّنته من غزو العالم. في الحلقة القادمة، سنتعمق في لغة الإنسان، كيف قد تكون تطورت، وكيف غيرت مجرى التاريخ!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كتاب العاقل/ مقدمة

“هل تساءلت يومًا كيف أصبح البشر القوة المهيمنة على هذا الكوكب؟ كيف انتقلنا من كائنات غير مؤثرة إلى مخلوقات قادرة على تغيير مصير الأرض؟ في كتاب ‘العاقل: تاريخ مختصر للنوع البشري’, يأخذنا يوفال نوح  في رحلة ممتدة عبر الزمن، من بدايات الإنسان الأول إلى العصر الحديث، ليكشف لنا كيف شكلت الأفكار واللغة والثقافة والتكنولوجيا عالمنا كما نعرفه اليوم. في هذه السلسلة من بودكاست  سطرين و اكثر ، سأشارك معكم أهم الأفكار المثيرة في الكتاب، وسنناقش معًا كيف تطور الإنسان، وكيف غيرت الثورات الكبرى—من الإدراكية إلى العلمية—حياتنا إلى الأبد.  “بداية  يروي الكاتب  قبل حوالي 14 مليار سنة خرجت المادة والطاقة والزمان والمكان إلى حيز الوجود فيما يعرف بالانفجار العظيم. وتسمى قصة هذه الملامح الأساسية للكون بالفيزياء.  بعد ظهور الكون بـ 300 ألف سنة، بدأت المادة والطاقة بالالتحام كذرات، ثم اتحدت لاحقاً مكونة الجزيئات. وتسمى قصة الذرات والجزيئات والتفاعلات فيما بينها بالكيمياء.  اما قبل 4 مليارات سنة، اندمجت جزيئات معينة على كوكب يدعى الأرض لتشكل بنى كبيرة ومعقدة تسمى المتعضيات،وتس...

كتاب العاقل / شجرة المعرفة ( اللغة)

في هذه الحلقة من سطرين و اكثر دعونا  نتحدث عن لغة الانسان العاقل و نتكتشف معا كيف نشأت و كيف كانت نقطة التحول الكبرى في تاريخنا و كيف شكلت مصير العقلاء و جعلتهم حكام و اسياد الارض  يق ول الكتاب :  قبل مائة ألف سنة، هاجرت بعض مجموعات الإنسان العاقل شمالًا إلى شرق البحر المتوسط، الذي كان إقليمًا يسكنه النياندرتال. لكنهم فشلوا في تأسيس موطئ قدم ثابت هناك. ربما كان السبب السكان الأصليين المتوحشين، المناخ العنيف، أو الطفيليات المحلية غير المألوفة لهم. ومهما كان السبب، انسحب العقلاء أخيرًا، تاركين النياندرتال سادةً للشرق الأوسط. هذا السجل الضعيف في الإنجاز قاد العلماء إلى الاعتقاد بأن البنية الداخلية لأدمغة هؤلاء العقلاء الغابرين  كانت على الأرجح مختلفة عمّا لدينا الآن.  حيث انهم كانوا يشبهوننا، لكن قدراتهم الذهنية، مثل التعلم والتذكر والتواصل، كانت محدودة جدًا. لكن لاحقًا، قبل حوالي سبعين ألف سنة، بدأ الإنسان العاقل بفعل أشياء مميزة جدًا. في ذلك الوقت، غادرت مجموعات من العقلاء إفريقيا للمرة الثانية، وتمكنوا هذه المرة من إجلاء النياندرتال، ليس فقط من الشرق الأوسط، بل ...