اليوم نفتح صفحة جديدة في كتاب العاقل و نلقي نظرة على اهم التحولات في تاريخ البشرية و هي الثورة الزراعية و التي نعتقد جميعا انها كانت خطوة طبيعية نحو التقدم و لكن على حسب راي الكاتب انها كانت فخ الرفاهية فقد تحولت الزراعة من وسيلة لعيش افضل الى عبء جعل الانسان يعمل اكثر و يتعب اكثر و يخضع لنظام اجتماعي اكثر تعقيدا و ظلما
أعلن الباحثون مرة بأن الثورة الزراعية كانت بمثابة قفزة تقدمية عظيمة للبشرية. ورووا حكاية عن تقدم تدعمه قوة العقل البشري، وثورة أنتجت تدريجيا أناس أذكى. ففي نهاية المطاف أصبح الناس أذكياء جدا إلى درجة أنهم استطاعوا فك الغاز الطبيعية التي مكنتهم من التحكم بالحيوانات وزراعة القمح وحالما حدث هذا هجروا بابتهاج الحياة المنهكة والخطيرة والقاسية للصيادين الجامعين واستقروا مستمتعين بحياة الفلاحين الممتعة والمرضية.
لكنها في الحقيقة لم تكن سوى حكاية خيالية،
فليس هناك دليل على ان البشر اصبحوا أذكى بمرور الوقت، حيث انه عرف الصيادون الجامعون أسرار الطبيعة قبل الثورة الزراعية بوقت طويل لان بقائهم كان يعتمد على المعرفة العميقة و الوثيقة بالحيوانات التي يصطادونها والنباتات التي يجمعونها.
و بدلا من ان تفتح الثورة الزراعية، عصراً من الراحة والرفاهية، دفعت الفلاحين إلى حياة أشد قسوة وبؤساً مقارنة بحياة الصيادين الجامعين. فقد أمضى هؤلاء الصيادين أوقاتهم في أنشطة متنوعة، وكانوا أقل عرضة للمجاعات والأمراض.
و صحيح أن الثورة الزراعية زادت من كمية الطعام المتاحة للبشر، لكنها لم تُحسّن نظامهم الغذائي، ولم تمنحهم المزيد من وقت الفراغ. بل أدت إلى انفجار سكاني، وصنعت نخباً مترفة، بينما ظل الفلاح الاعتيادي يعمل بجهد أكبر من الجامع، ويأكل طعامًا أقل جودة.
لقد كانت الثورة الزراعية، كما يصفها المؤلف، “أكبر خدعة في التاريخ”.
والسؤال هنا: من المسؤول عن هذه الخدعة؟
و يجيب الكتاب انه لم يكن الملوك، ولا الكهنة، ولا التجارهم المسؤولين عن هذه الخدعة الكبيرة … انما كانت حفنة من نباتات: القمح، والأرز، والبطاطا. يسخر الكاتب قائلاً: “لم يدجن الإنسان هذه النباتات… بل هي من دجّنت الإنسان العاقل.”
⸻
قبل عشرة آلاف سنة، لم يكن القمح سوى نوع متواضع من الأعشاب البرية، محصورًا في رقعة صغيرة من الشرق الأوسط.
وفجأة، وخلال بضعة آلاف من السنين، انتشر هذا النبات في كل أرجاء العالم، محققًا أحد أعظم النجاحات في تاريخ الأرض وفق مقاييس البقاء والتكاثر.
في السابق، لم تكن السهول الكبرى لشمال أمريكا تعرف القمح إطلاقًا، أما اليوم، يمكنك أن تسير مئات الكيلومترات هناك دون أن ترى نباتًا آخر غيره.
القمح وحده يغطي اليوم ما يقارب 2,25 مليون كيلومتر مربع من سطح الكوكب.
ولكن كيف حقق القمح هذا الإنجاز
في حين انه كان الصياد الجامع يعيش حياة يسودها الراحة والرضا. الا انه تخلى عنها و شيئًا فشيئًا، بدأ يكرس المزيد من وقته وجهده لزراعة القمح.
وخلال بضعة آلاف من السنين، صار البشر يعملون من الفجر إلى الغروب… لا لشيء سوى رعاية هذا النبات.
ولم تكن المهمة سهلة.
فالقمح لا يحب الأحجار، فكسر البشر ظهورهم لتنظيف الحقول.
ولا يحب مشاركة غذائه مع الأعشاب الأخرى، فظل الرجال والنساء أيامًا طويلة تحت شمس حارقة يزيلونها.
وحين كان القمح يمرض، كان على الإنسان أن يراقب الديدان والآفات.
وعندما تهاجمه أسراب الجراد أو الأرانب، كان على الفلاحين بناء الأسوار وحراسة الحقول ليل نهار.
وعندما توقف المطر و عطش القمح ، جلبوا له الماء من الجداول والينابيع.
بل جمعوا روث الحيوانات لتغذية التربة التي ينمو عليها.
ان جسد الانسان لم يتطور للقيام بهذه الاعمال الشاقة ولقد صُمم لتسلق الأشجار ومطاردة الغزلان، لا لتنظيف الحقول أو حمل دلاء المياه. و المحاصيل :
و لقد دفع ثمن ذلك أعمدة فقريّة متآكلة، و رُكب متضررة، رقاب وأكتاف مرهقة.
وتشير دراسة الهياكل العظمية القديمة إلى ارتفاع معدلات الانزلاق الغضروفي، والتهابات المفاصل، والفتق مع ظهور الزراعة.
والأسوأ من ذلك أن الزراعة فرضت على الإنسان الاستقرار الدائم بجوار الحقول، مكبلاً بقيود لم يعرفها من قبل
و بالرغم من هذه المشقة لم يمنح البشر القمح نظامًا غذائيًا أفضل.
فقبل الثورة الزراعية، كان البشر يعتمدون على تنوع واسع من النباتات والحيوانات.
كانت الحبوب تشكل نسبة ضئيلة من غذائهم.
حيث ان النظام الغذائي المعتمد على الحبوب، فقير بالفيتامينات، ثقيل بالأملاح، صعب الهضم، وسيء للغاية على الأسنان واللثة.
ولم يمنحهم ايضا أمنًا اقتصاديًا.
حيث كانت حياة الصيادين الجامعين أكثر أمانًا من حياة الفلاحين و اعتمدوا على عشرات الأنواع المختلفة من الغذاء، مما مكنهم من النجاة حتى في أصعب السنوات، دون الحاجة إلى تخزين كميات كبيرة من الطعام.
في حين ان المزارعين، قد أصبحوا رهائن لنباتاتهم القليلة.
واعتمدوا على القمح، أو الأرز، أو البطاطا.
فإذا انقطع المطر، أو اجتاحت الجراد الحقول، أو أصابت الفطريات محصولهم، جاء الموت… جوعًا، في صمت ثقيل، يحصد الآلاف والملايين.
حتى العنف لم يتراجع مع الزراعة.بل إن المزارعين، الذين امتلكوا الحقول والمخازن، أصبحوا هدفًا للطمع.
في الماضي، إذا ضاق الحال على جماعة من الصيادين الجامعين، كانوا ببساطة يرحلون إلى أرض جديدة.
كان الأمر خطيرًا… لكنه كان ممكنًا.
أما القرى الزراعية، فلم يكن أمامها سوى خيارين:
أن تقاتل حتى الموت… أو تموت جوعًا بعد أن تتخلى عن حقولها وبيوتها ومخازنها. و كان العنف بين القرى الزراعية أكثر دموية ومرارة.
صحيح أن القرى الزراعية منحت بعض الفوائد، مثل حماية أفضل من الحيوانات المفترسة أو من قسوة الطقس،
لكنها بالمقابل فرضت حياة مليئة بالمرض والجوع والعنف.
من الصعب على مجتمعاتنا اليوم، التي تنعم بالوفرة والأمن، أن تدرك حجم المأساة.
فنحن نعتقد أن وفرتنا الحالية بُنيت فوق قواعد أرستها الثورة الزراعية منذ آلاف السنين.
ولهذا نظن أنها كانت تقدمًا مذهلًا.
لكن لو نظرنا بعين الإنصاف…
لعرفنا أن الحكم على آلاف السنين من التاريخ، بعيوننا الحديثة، ليس سوى وهم آخر من أوهام الإنسان العاقل
و نعود للتساؤل كيف اقنع القمح الانسان العاقل بترك حياته الحرة و رفاهيته و استبدالها بحياة البؤس و الشقاء و العبودية
و يجيب الكتاب إن العملة الحقيقية التي قدمتها الثورة الزراعية للانسان العاقل لم تكن الجوع ولا الألم،
وإنما كانت النسخ الوفيرة من الجينات .
فكما يقاس النجاح الاقتصادي لشركة ما بعدد الدولارات في حسابها البنكي، وليس بسعادة موظفيها،
كذلك يُقاس النجاح التطوري لأي نوع بيولوجي بعدد نسخ جينوماته، وليس بسعادة أفراده.
فإن لم يتبقَ أي نسخ من الجينوم، ينقرض النوع، تمامًا كما تفلس الشركة إذا فرغ رصيدها من المال.
وإذا توفرت أعداد كبيرة من نسخ الجينوم، فإن هذا يُعد نجاحًا، حتى لو كانت حياة الأفراد أنفسهم قاسية وبائسة.
حين نقيّم الازدهار التطوري من هذا المنظور البارد، يصبح وجود ألف نسخة من الجينوم أفضل دائمًا من مئة.
وهذا بالضبط ما حققته الثورة الزراعية: و هي القدرة على جعل أعداد أكبر من البشر يعيشون تحت ظروف أسوأ.
لكن… لماذا يجب أن يهتم الأفراد بهذه الحسابات التطورية؟
لماذا قد يرضى أي إنسان عاقل بأن يعيش حياة أكثر قسوة فقط ليضاعف عدد نسخ جينوم البشر؟
و يذكر الكتاب انه هذا حدث لنفس السبب الذي من أجله ارتكب الناس أخطاءهم الفادحة طوال التاريخ و هو انهم لم يكن بمقدورهم إدراك كافة عواقب قراراتهم.
فعندما قرروا فعل عمل إضافي - لنقل مثلاً أن يجرفوا الحقول بدلاً من نشر البذور على السطح - فكروا: نعم سنضطر أن نعمل بمشقة أكبر، لكن الحصاد سيكون أوفر، ولن نقلق بعد الآن من السنوات العجاف، ولن ينام أطفالنا وهم جائعون.
بدأ هذا منطقياً: إذا عملت بجهد أكبر، ستحظى بحياة أفضل.
هكذا كانت الخطة، وسار الجزء الأول من الخطة على ما يرام، لكنهم لم يفكروا ان نتيحة لذلك سوف يزداد عدد الأطفال خاصة ان التوقف عن حياة الترحال ساهم في ان تنجب النساء طفلا كل عام مما يعني أنه يجب أن يُشارك الفائض من القمح بين أطفال أكثر.
ولم يدرك المزارعون الأوائل كذلك أن تغذية الأطفال بكثير من العصيدة وقليل من حليب الأم ستُضعف أجهزتهم المناعية، وأن المستوطنات الدائمة ستمسي بؤراً للأمراض المعدية و القحط و اللصوص و الغزو من الاعداء
ولم يتوقعوا أنه باعتمادهم على مصدر وحيد للغذاء، فإنهم في الحقيقة يعرضون حياتهم أكثر لأضرار القحط.
و بالرغم من ذلك لم يتخلَّ البشر عن الزراعة بعد أن أسفرت الخطة عن نتائج عكسية و ذلك لان التغييرات الصغيرة تتطلب أجيالاً حتى تتراكم وتؤدي إلى تحوّل المجتمع، وحينها لن يوجد من يتذكر أنه سبق لهم العيش بطريقة مختلفة.
ومع نمو السكان الذي قَسَم ظهر البشرية من الذي كان سيتطوع للموت جوعا حتى يتمكن البقية من العودة للأيام السعيدة الخالية؟
لم يكن هناك مجال للعودة إلى الوراء، فالفخ كان قد انطبق بإحكام. و أسفر السعي إلى حياة أسهل عن معاناة أكبر.
ولم تكن تلك المرة الأخيرة، فذلك يحدث لنا هذه الأيام. كم من خريجي الجامعات الشباب يقبلون بوظائف متطلبة في مؤسسات رفيعة، آخذين على أنفسهم عهداً بأن يعملوا بجد لكسب المال الذي سيمكّنهم من التقاعد والسعي لمصالحهم الحقيقية حين يبلغون الثلاثين أو الخمسين؟
لكن ببلوغهم ذلك العمر، سيكون لديهم قروض عقارية ضخمة، وأطفال في المدارس، وبيوت في الضواحي تستلزم سيارتين على الأقل للعائلة، وشعور بأن الحياة لا تستحق عيشها دون نبيذ ممتاز وإجازات مكلفة في الخارج.
فما الذي يتوجب عليهم فعله في هذه الحالة ؟ هل عليهم أن يعودوا للحفر بحثاً عن الجذور؟
بالطبع لا، سيضاعفون جهودهم ويظلون يكدحون بمشقة.
يتمثل أحد قوانين التاريخ الصارمة في أن الرفاهيات تتحول لتتصبح ضروريات، فتنتج بالتالي واجبات جديدة.
فبمجرد أن يعتاد الناس على رفاهية معينة، فإنهم يعتبرونها أمراً مضموناً ثم يعتمدون عليها إلى أن يصلوا إلى مرحلة لا يمكنهم العيش بدونها.
كانت بداية اثورة الزراعية بمجرد أن تستوطن مجموعة واحدة وتبدأ بالحراثة تصبح امرا لا يمكن مقاومته ، سواء في الشرق الأوسط أو في أمريكا، وعندما هيأت الزراعة ظروفاً لنمو سكاني سريع، استطاع المزارعون التغلب على الجامعين بتفوقهم العددي.
اخيرا
واليوم، لا تختلف القصة كثيراً.
فكلما سعينا لتوفير الوقت والراحة عبر التكنولوجيا الحديثة، ازداد قلقنا وتسارع إيقاع حياتنا.
الرفاهيات تتحول إلى ضروريات… والضروريات تخلق واجبات جديدة تثقل كاهلنا دون أن نشعر.
وهكذا، دون أن يخطط أحد أو يقرر، تتغير البشرية وتدفع ثمناً باهظاً مقابل سعيها الدائم نحو الراحة.
اخيرا
كانت الثورة الزراعية أول فخ الرفاهية … ولن تكون الأخيرة
في الحلقة القادمة سنتحدث عن الحلقة المفرغة التي انشاتها الطبقية و العنصرية بين اعراق البشر المختلفة
تعليقات
إرسال تعليق